الجمعة، 9 يونيو 2017

(رحلة المئة ثلاثاء! )

عن العصبية و النسبية والعشوائية و التقبل والعشوائية والـ في إيه؟ ثم ، الفكرة. (رحلة المئة ثلاثاء! )، لأنه لا أسماء أقصر سوف تصف شيئا كهذا.



إنها المرة التاسعة مثلا التي أعود فيها للتدوين، الطريف أنه في كل مرة أقرر فيها ذلك القرار الصعب، فإن المحصلة في النهاية تكونُ تدوينة وحيدة حزينة ومملة، لا يقرأها أحدٌ في الغالب، لذلك فإن التغيير الذي سأقوم به في هذه المرة، هو أنني لن أعود للتدوين، فقط سأكتب هذه التدوينة الحزينة المملة، ثم أعود لحياتي التي هي بطبيعة الحال أشد مللا، وأكثر.

التغيير رائع، عبقري ومميز، الشعور المصاحب لأي تغيير كبيرا أو صغيرا كان، هو في نظري، أشبه بالاستحمام، رائع، عبقري، ومميز! يضفي لمسة فريدة من نقاء الروح المصاحب لرائحة زكية حقاً، قادر علي أن يحيل أسوأ مزاج ممكن أن تمر به إلي سعادة وراحة بالغين ومفرطين لحد " الانتخة " مثلا، وقد لا يصح تعبير آخر ليصف الشعور بذات الدقة، والبلاغة.

وكالإستحمام، والأنتخة، التغيير قد لا يكون بذات الروعة إذا زاد عن الحد اللازم، يمكنك أن تغير وظيفتك كل عشرة أعوام لتبدأ من الصفر، في كل مرة، وتتحدث عن ذلك التغيير في محاضرة سيشاهدها الملايين لتحفزهم علي تحمل الفشل لبضعة أيام إضافية، إلي أن تنبثق لهم محاضرة أخري، من أحد الثقوب في الإنترنت المظلم، والغامض.

ومنطقيا، يمكنك تغيير وظيفتك كل عشرة أسابيع، لا مشكلة، الدنيا تجارب كما يقولون وأخيرا قد وجدت شغفك في الحياة، للعشرة أيام المقبلة، وكما يجب أن نقول، مئة تجربة لم تنجح، لا مئة تجربة فاشلة، وأستطيع أن أعدك أن الحالة الوحيدة التي ستنبثق فيها إحدي محاضرتك في وضع كهذا، هو أن يصبح العالم نفسه، وليس الإنترنت، مظلما، وغامض.

لا أعرف كيف كان الأمر قبل الإنترنت، لا أعرف كيف كان الأمر قبل الفيسبوك حتي، ولكن ما أعرفه الآن أن الجميع أصبح لهم الحق في الإدلاء بآرائهم بمنتهي الحرية، مهزلة حقيقية، منذ صغري وأنا أكيد من أن عصير الموز هو أحد أروع الأشياء علي الإطلاق، يأتي في المرتبة الثامنة بعد عجائب الدنيا السبعة، والسبب الوحيد في ذلك أنهم عجائب الدنيا والموز ليس عجيباً فقد لا يصح أن يسبقهم لدواعي الأدب والإحترام العجيبة بدورها، وخلاف ذلك فهو الاروع، والأفضل.

كيف يجرؤ أولاد الكلب علي الاعتراض علي أمور بديهية كتلك؟ أشعر بغضب جم وشديد حينما يتشدق أحدهم ولسانه الأحمر يجعل الموضوع أسوا مما هو عليه أصلا بمراحل، بأن عصير الرمان هو أفضل الأشياء علي الإطلاق! ويبدأ البعض حتي في إدخال الدين والعادات والتقاليد في الموضوع، إن فلان بن فلان بن فلان كان يحب عصير الرمان أكثر من عصير الموز، ويبدأ به، أريد أن أكسر رأس هذا المعتوه، بفأس، وشاكوش.

أمضيت الساعات والأيام والأسابيع والشهور في ذلك الجدال العقيم، أستيقظ في الصباح لأمارس مهمتي السامية في محاربة مناصري عصير الرمان، والدفاع عن شرف عصير الموز، حتي يأتي الليل فأشرب عصير الموز، ثم أنام. وفي أحد الأيام قررت أن اتذوق عصير الرمان، لأكتب مقالا لاذعا منطقيا ويأتي بالخلاصة التي تفند الجدال إلي الأبد وينتصر الحق ويفرح الجميع، ويسعدون.

كان يوم ثلاثاء، لا اهمية لتلك المعلومة ولكنني أذكرها، وكان عصير الرمان في ذلك اليوم هو أفضل شيء تذوقته علي الإطلاق، وفي ذلك اليوم توقفت عن الجدال وتعلمت درساً مهماً، تلك الأمور نسبية، وإذا أردت لنفسي الخير فلا يجب أن يكون لي تدخل فيها، ولا رأي.

" تسمي جدتي الأسبوع جمعة، مرت جمعة منذ أن جاء عمك، مرت ثلاث جمعات منذ أن رحل خالك، وأنا أصبحت أحب أن أسمي الإسبوع بالثلاثاء. "

مر ثلاثاء وأنا أعرف أن الأمور نسبية، تعلمت الكثير في تلك المدة، عصير الموز رائع فعلا ولكن محبيه هم أسوأ فئة من المتعصبين البربريين في العالم، ثم أن أنوفهم الصفراء مستفزة فعلا، كيف يمكن أن يكون شخص بأنف أصفر كهذا ويتكلم أصلا؟ تعلمت أيضا أن الألسنة الحمراء لمحبي عصير الرمان لا علاقة لها بالعصير نفسه، وأن التغيير ممكن أن يكون كل عشرة أيام، ما المشكلة؟ اليس الإلتزام بمدة العشر سنوات تلك هو إقرار ضمني بأنها وصفة لا تغيير فيها، ولا خلافه.
مر ثلاثاء آخر، أنا في مشكلة حقيقية فعلا، لا أعلم لها حلا، محبي عصير الرمان ذوو الألسنة الحمراء، لا تمت ألسنتهم الحمراء للأمر بصلة، ومحبي عصير الموز ذوو الأنوف الصفراء، لا تمت أيضا أنوفهم الصفراء للمشكلة بصلة، جميعهم رائعون وعلي حق، ثم إن هناك عصير الليمون، والبطيخ، والجوافة، والتعقيد يزداد وأنا أصبحت أنام في كل ثلاثاء مرة، لأن التفكير لا يفارقني، وكنت أعتقد ساذجا أن تغييرا كهذا سيريحني من أعباء العراك لأجل الموز، والجدال.

مر ثلاثاء إضافي، أصبح الموضوع جليا، إن ترك وظيفتك كل عشرة أيام هو أمر مكرر، وتركها كل عشرة سنوات هو مكرر أيضا، لا تغيير حقيقي في ذلك ولا إبداع، ناهيك عن التمسك بها للأبد والموت في تابوت الروتين المظلم، واضح ما هو، والواضح أيضا هو الحل، البسيط والسهل، أترك وظيفتك عندما تشعر بذلك، قد تشعر بالأمر بعد عشرة أيام أو بعد عشرة سنوات أو قد لا تشعر به أبدا، ولكن التغيير الجوهري الحقيقي هو أنك في كل ثانية يزداد إنفرادك وإبداعك في إتخاذ ذلك القرار، ورغم أنه يبدوا مكررا إذا نظرنا له كنتيجة نهائية وفعل أكيد، ولكن عملية التفكير التي أدت لتلك القرار هي المميزة، تبدو بعد ذلك أمور كمحاولة التميز والإبداع في طريقة التفكير نفسها، للوصول لأفضل القرارات وأكثرها إستقرارا أو عشوائية، زي ما تيجي، هي أمور مفيدة، وصحية.

مرة ثلاثاء آخر، المشكلة الآن كبيرة جدا، أكبر من أي وقت مضي، لا تخف لم أغير رأيي مرة أخري، ما زلت مقتنعا بكل تلك الأشياء، وتلك هي المشكلة، ما الذي يجبرك أنت علي الإقتناع بها؟ قد يكون رأيك مختلفا تماما، إن العصير حرام في المرتبة الأولي ويجب أن نكتفي بتذوق الفاكهة ونتوقف عن عصرها، رأيك ولديك أسبابك وأنا لدي رأيي وأسبابي، ولكن من المؤكد أن أحدنا علي خطأ وأحدنا علي صواب، ناقشت زميلا لي في أحد المواضيع فكان رده أن نأتي بثالث لنا، ليس معي، ولا هو معه، فنضمن رأيه المحايد منذ البداية، وبوجود الثالث فإن أغلبية ما في الرأي ستتحقق، وبحكم الأغلبية فإننا نعرف الصواب من الخطأ، والضلال.

مر ثلاثاء وأنا الآن في مصيبة، أنا مصاب بمرض نفسي ما، هذا مؤكد، التفكير المعتل والشك قد انتشرا في دماغي كمرض خبيث ما، لا أود ذكر اسمه لأن ذلك يخيف أمي، ولكن لنعرض الأمر، الم يكن حب عصير الموز في بداية الأمر هو أغلبية يتفق عليها الناس، ونحارب جماعةً الأقلية الضالة المحبة للرمان؟ ما الذي يجعل الصواب هو رأي الأغلبية إن كنت في النهاية قد قنعت وإقتنعت بأنه لا فرق بين الموز والرمان في شيء؟ وكيف تكون مجموعة من ثلاثة هي الفاصل في حكم الصواب والخطأ في عالم يسكنه مليارات البشر؟ لم أكن أود أن أفتح هذا الموضوع مرة أخري ولكن هل يكون التغيير فعلا أمر خاطئ يفعله الجميع مدعين إنهم وحدهم يفعلوه، وفرسان الحق فعلا هم من يتمسكون برأي واحد من البداية إلي النهاية؟ تبدو العبارة كعبارة مخبول في مصحة ما ولكن ما الذي يمنع فعلا؟ وثانية واحدة، ما الذي يجعل المخبول مخبولا ويجعلنا جميعا عقلاء غير أننا جميعا متفقون وهو المختلف الوحيد؟ هل نستطيع أن نعتبر علي سبيل راحة البال أن رأي الجماعة صواب حتي وإن كان خاطئا، هما أقدر علي أي حل علي فرضه وتطبيقه، أم أن هذا لا يكون عادلا؟ هل تنتهي تلك الأفكار أبدا والأسئلة؟ أم أن كل سؤال يتلوه سؤال أخر، ومعضلة.

مر مئة ثلاثاء منذ حادثة الرمان، أسميها حادثة لأن الحادثة في اللغة هي ما يجد ويحدث وما يقع فجأة، وقد وقعت تلك الحادثة فجأة، والحادثة هي أمر طارئ، عرضي، فجائي، أو مؤلم، لست طبيبا ولا أفهم كلام الأطباء ولا أحب أن أسمعه أصلا ولكن كنت مضطرا فالألم يزداد، لأسباب، لا أفهمها كما قلت، عصير الرمان سبب لي مرضا ما وأنا مضطر للتعايش مع هذا المرض، ومع الأفكار السوداء النابعة من ذلك الجدال الأبدي، ومضطر أن أقاطع الرمان أيضا، والموز.

إن كنت وصلت إلي هذا الحد من القراءة فأبشرك بأني علي وشك الإنتهاء، ومن لم يصلوا فهم غير مهتمين بأي حال، إن كنت شخصا لا تجمع الطوابع، فلا معني لسؤال لك عن أي طابع ضمن مجموعتك هو المفضل لك، السؤال ليس له معني، لديك خمسة قطع من الحلوي تريد أن تقسمها علي خمسة أشخاص، ستقوم بإعطاء كل شخص قطعة واحدة، هناك معني للقسمة علي خمسة يكمن في تلك الجملة، والقسمة علي صفر إن حاولنا بذات الطريقة فهمها فلن نجد لها معني، ليس لديك أي أشخاص أصلا لتقسم عليهم الحلوى، ما علاقة ذلك بالأمر؟

عندما أًصبحت مجبرا علي مقاطعة الموز والرمان، لم أعد مهتما أصلا أن يكون لي رأي، لا فارق، فليحترق العالم بموزه برمانه، لا علاقة لي بالأمر، نسبية الأفكار هي مشكلة حقيقية عندما نكون قد اخترنا أفكارنا بالفعل، ومشكلة أكبر وأكثر عنفا وضخامة عندما نكون مرغمين علي الأختيار، سواءا كان ذلك نابعا منا او من مؤثر أخر هو الذي يجبرنا علي ذلك، ونسبية الأفكار لا تمثل أي مشكلة تذكر عندما يكون الإختيار نفسه نسبيا، لا يجب الإختيار بين الموز والرمان، ولا يجب الإختيار بين ترك وظيفتك أو الإستقرار فيها، فلتفعل ما يحلو لك، ويكمن الفارق الجوهري هنا أنك لا تفعل لذلك لتولد ذلك الحل المختلف المميز الإبداعي، وإنما فقط بدون سبب آخر غير رغبتك في فعل ذلك، وربما الأمر ليس بتلك الأهمية، وما ولّد المشكلة الكبري من البداية هو إعطائنا الاهمية لأمور أبسط بكثير من ذلك، قد يبدو عصير الموز بسيطا وتافها، ولكن ما تعتقده أنت ويبدو معقدا كبيرا ومهما ومؤثرا في مسار البشرية، هو أمر بسيط وتافه لآخرين.

لم أعد أعرف كم ثلاثاءَ قد مر، ولكن ما أعرفه وما أنا أكيد منه، أن نظرتي للأمور الآن علي قدر ما هي آمنة صحيحة سليمة ذات فوز مضمون ومكسب، علي قدر ما هي خاطئة لا تحتمل الصواب حتي وستؤدي بي لفشل لا قيام منه، تلك النظرة لم أخترها لأي السببين، ولكن فقط لأنني أريد ذلك، ربما يكون وقع الخسارة والفشل أهون، والأسئلة والمعضلات أكثر قابلية للحل، ربما أترك وظيفيتي الآن وأتحمل الخسارة بكل روح رياضية، رغم أنني تركتها لاجل النجاح الذي حصل عليه الشخص من المحاضرة المنبثقة، ربما إن كان الموضوع منذ البداية بتلك البساطة.

دمتم،،

Share/Bookmark
rss