الأربعاء، 10 يوليو 2013

(10) - إنتحار - الجزء الخامس

هل أصبت بالعمى؟ لا أعلم حقا ولكنني لا أستطيع رؤية أي ضوء، سوف أنتظر، ربما هو ظلام لا أكثر، فجأة شعرت بشيء ما، وكأن أحدا يحدق بي، ولكنني لا أرى، أسمع صوت أنفاس، كأنها أنفاس أسد يكاد يفتك بفريسته، كانت قريبة جدا، وكأنها بداخل أذني فقط، وفجأة وضع شخص ما يده على رأسي!


لفهم القصة يجب قراءة الأجزاء السابقة ،الجزء الرابع من هنا


لاحظت حينها فقط أنني حليق الرأس تماما، تذكرت العملية، هل كانت ناجحة أم ماذا حدث؟ هل ذلك الحلم الذي رأيته هو حقيقة مشوشة أم هو خيالي بالكامل، لماذا لا أرى وكيف تؤلمني عيناي بينما كنت احلم! إذا كان الأمر حقيقي فكيف كان أبواي هنالك ولمَ كانا غاضبين؟ ثم من هذا الي يضع يده فوق رأسي، كانت له رائحة نتنة يصعب تحملها، قرب وجهه من وجهي فشعرت بلحيته، كانت خشنة ولا تبدو نظيفة جدا، ظل بجواري بعض الوقت وكان يحاول شمي، كأنه سيأكلني فعلا، وكنت خائفا لدرجة لا تسمح بالتنفس حتى، ثم ذهب في هدوء، ترى من يكون؟

شعرت بعدها أن هناك من يحملني، لا أرى شيئا ولا أستطيع الحراك، حتى وضعت على سرير آخر، ظللت أتظاهر بالنوم ولم أكن أعلم ما أفعله غير ذلك، 
بعد عدة ساعات أخرى بدأت فجأة أستعيد قدرتي على الرؤية تدريجيا، كنت جالسا على سرير متداعي في وسط ما يبدو أنها مقبرة ما، وكان هو واقفا هناك، يروي بعض الزهور في إستمتاع حقيقي، يرتدي جلبابا متسخا وفوقه معطف جلدي، شعره كثيف وخشن وتبدو لحيته كأنه لم يحلقها أبدا،أسمر اللون، كان متشردا بكل ما تعنيه الكلمة، برغم ذلك كان المعطف والجلباب القديمين عاجزين عن إخفاء جسده، كان يبدو في الثلاثين من عمره، عندما لاحظ أنني مستيقظ هرع إلي كما يهرع طفل صغير لوالده إذا أحضر له شيئا ما، قال مستمتعا وبصعوبة في النطق كتلك التي أعاني منها : أ أ أنا أبو سيد.. أ أنا زيك بالظبط!
ثم استدرك كلامه قائلا: 
حـَّ..حـاول  تـ..تـكلم، مـ..تقلقش.. هــ.. تعرف
- إ..إنت صـ..صاحب دماغ بردو؟ 
نظرت له نظرة تعني عدم الفهم.. فأكمل قائلا
- صاصاحب دماغ .. مدمن؟
- لالاالا.. ككان عندي غدة نكفية 
نظر لي في بلاهة ولم يهتم.. ذهب ليروي زهوره مرة أخرى.. كنت أتأمله وهو يقوم بذلك ولا يدور بذهني إلا سؤال واحد.. هل هذا هو مصيري؟

بعد دقائق أخرى أخذ يصرخ ويبتعد عن الزهور في خوف حقيقي، صرخ قائلا للزهور أن تتركه، وصرخ قائلا لي أن أتبعه، تبعته حتى لا يغضب أكثر من ذلك، كنت أفكر في قرارة نفسي ها أنا عالق مع أحد المجانين، كنت أرتدي ملابسا بيضاء وحذائي الرياضي، وكان هو يرتدي أسمالا إذا وصفناها بشكل سليم فماذا سيقول من يرانا معا؟ قال متحمسا: -تتعالى أووريك سيد! 

لابد أن سيد هذا هو إبنه، ظللت أتبعه لحوالي نصف ساعة حتى وصلنا لمنطقة عشوائية أخرى، كان هناك بعض الأطفال يلعبون، يبدو أصغرهم في الثالثة من عمره، إقترب منهم فأخذوا يدورون حوله ويصرخون: " المجنون اهو اهو.. المجنون اهو اهو "، ونادى أحد الأطفال: سيد أبوك هنا يا سيد، خرج طفل آخر من إحدى الخيام وأخذ يراقب ما يحدث، وكانت عيناه تدمعان، وكان الرجل يصفق في مرح وسط ما يفعله الأطفال!
إنتهوا بعد ما يبدو أنه يقرب من الستة أعوام!

عدنا سويا وأنا أفكر في ذلك المجنون الذي يضحك بجواري وكأنه قد نسى كل ما حدث، هل هو مجنون فعلا؟ هل أنا مجنون مثله؟ لا أشعر أنني مجنون، لقد كنت مشهورا بذكائي واتزاني فكيف أصبح مجنونا! عدنا مرة أخرى لتلك المقبرة، كان هناك غرفة ما أخبرني أن أنتظره فيها وذهب مرة أخرى، أحضر رغيفي خبز ' فينو ' متحجرين تقريبا، أعطاني واحدا وتناول الآخر، وأخرج علبة كبريت من جيب جلبابه يبدو أنه أحضرها معه وأشعل مصباحا يعمل بالكيروسين، كان هناك خزانة ودلو ماء وكرسي متهالك وملاءة تغطي نصف الأرضية، يبدو أننا سننام عليها، لم يكن يبدو سعيدا مستمتعا كما كان طوال اليوم، أخرج من جيبه بعض الجنيهات وأدخلها إلى الخزانة من احد الثقوب، لم أعلق، فجأة دوى صوت عواء ما، قمت من مكاني فزعا وقلت له: إ إنت ساسامع الصوت ده؟ 
رد في هدوء وفي نبرة حزن واضحة: أأه.. سامع .. سامع
وكأنه يقول ذلك ليطمئني! ولا إطمئنان في ذلك، لم أستطع النوم إلا بعد ساعات، لم تعد ملابسي البيضاء بيضاء، ولم تتوقف حياتي، ظلت تتحرك مسرعة، نحو الأسوأ!

عندما استيقظت لم يكن بجواري، خرجت فوجدته يروي تلك الزهور، ويتحدث لها، في غضب، لم أكن أعلم ما هي مشكلة تلك الزهور، سألته فأسكتني بعبارة قوية اللهجة: أسكت! أنت ممممش عارف حاحاجة!

كانت زهور عادية! في إصيص عادي! موضوعة على جزء بارز من جدار مقبرة ما، كانت المقابر هنا من النوع المقسّم لما يشبه الغرف، كل غرفة مغلقة ببوابة، بحيث يصبح من الصعب نبش تلك القبور أو العبث بها، لم أتصور يوما أنني سأعيش في مقبرة، لم أفكر في الرجوع حتى لمنزل الطبيب، كنت خائفا منه ولا أتذكر السبب، فجأة لاحظت، وراء إصيص الزهور، هناك مفتاح ما، اقتربت في حذر وأمسكت بالمفتاح، بدأ الرجل في الصراخ كأنني أمسكت طحاله، فكرت فيما يمكن أن يفتحه ذلك المفتاح، يبدو كمفتاح خزانة، هناك خزانة في غرفته، سوف أجرب، كان يصرخ ويرجوني أن لا أفعل، زادني ذلك شغفا لأعرف ما يخبئه، كان يصرخ ولكنه لا يقترب أبدا، أولجت المفتاح بالباب فدخل بصعوبة، يبدو أنها لم تُفتح منذ سنوات، ولكن.. كانت الخزانة فارغة، أتذكر أنه وضع بها جنيهات بالأمس فأين ذهبت! كان لها باب في الناحية الأخرى وكان موصدا، تركتها وقد اعترتني خيبة الأمل وخرجت فوجدته جالسا على الأرض، يبكي في رعب، يتحدث عن الرحيل قبل الفتك بنا، كان يتحدث وكأن جميع الشياطين قد حبست في تلك الخزانة وأنا قد حررتها، لاحظت أن أصيص الزهور مهشم وملقى على الأرض، انطلق ذلك العواء مرة أخرى، لم يبد عليه أنه قد لاحظ حتى، سألته في حذر: إ إ انت سسمعت؟، هز رأسه أن نعم في غير إهتمام، ثم قام من مكانه، أشار لي أن أتبعه، وتبعته!


Share/Bookmark
rss