السبت، 13 يوليو 2013

(13) - إنتحار - الجزء السادس

كنت على وشك الهروب، مع مجنون يعتقد أنني حررت شيئا ما يسكن خزانته!، كنت أشعر بعجز فكري، كيف وصلت إلى هذه الحالة، كيف كنت أسكن مع والديّ وكل همي هو الإلتحاق بكلية مرموقة، والآن أنا هارب مع مجنون ولا أدري مما أهرب ولا أدري لماذا لا أنسحب ببساطة من تلك الفوضى!

لفهم القصة يجب قراءة الأجزاء السابقة ،الجزء الخامس
قبل أن نتحرك مترا واحد أمرني أن أحضر الكيس من الداخل، كان أمرا لا يقبل النقاش فهو لن يدخل لتلك الشياطين التي حررتها أنا ولو كانت كنوز قارون تنتظره، دخلت لأبحث عن ذلك الكيس، كان كيسا يشبه أكياس الأرز، مرقعا بأكثر من رقعة، فتحته فكان به حذاء رياضي وبعض الاوراق وعلب السجائر الفارغة و"طفاشة" والكثير فعلا من الجنيهات الفضية، خرجت إليه مرة أخرة فكان قد إبتعد بعض الشيء، لحقت به لا أعلم إلى أين أتجه، ولا أعلم لمَ لا أرحل فقط فأنهي كل ذلك!

هنا سمعت العواء مرة أخرى، كان قريبا جدا، وكنت مرتعبا، وكان هو غير مبالٍ تماما، وكأن لا شيء هنالك، سألته لمرة تبدو أنها الألف:
- إ.. إنت سمعت؟
- آ.. آ .. آه
لابد أنه كاذب، إذا كنت أنا مكانه لأصابني الهلع، كيف أخاف من خزانة ثم أستمع لعواء الذئاب كأنه موسيقى هادئة؟
أردفت مرة اخرى:
- سمعت إيه؟*
نظر لي ثم تنهد وقال في هدوء:
- هـو هو إنت مـش عارف؟
لا يبدو ذلك هو المجنون ذاته الذي كان يبكي لفتحي خزانة لا تحوي شيئا.. كان يبدو أكثر تعقلا.. وأكثر هدوءا.. ولكن ليس هدوءا عاديا.. هدوءا من ذلك النوع الذي يسبق العواصف
- مش عارف إيه؟
- بجد؟
- مش عارف ايه انا مش فاهم حاجة.
تنهد مرة أخرى ثم نظر لي، استشعرت تلك الشفقة التي كانت في نظرات الطبيب والممرضات وأصدقائي عندما كنت بالمستشفى، ثم قال في هدوء:
- هحكيلك وإحنا ماشيين .. كده كده معدتش فارقة
انا معرفش كتير عن نفسي، بيقولولي يا أبو سيد، الناس الي احنا رحنا عندهم إمبارح، بيقولوا بردو إني فقدت الذاكرة، بس في حاجات انا فاكرها، المخدرات، فاكرها كويس، حبوب الهلوسة، مكنتش هي الليلة الكبيرة بس كانت بتساعد كده، كان شكلي في الأول نضيف وإبن ناس، بس لو أفتكر مين الناس دول؟

أول حاجة كنت فاكرها إني متشال وجيت هنا بردو، زي ما هما جابوك.
- مين الي جابوني؟
- كام ديلر كده.. الي انا فاهمه ان احنا بنساعدهم.. بس مش عارف ازاي
- وهما جابوني منين؟
- من مستشفى المجانين.. إنت مش فاكر خالص؟
- مستشفى المجانين!! لا مش فاكر! طب كمل
- خدو مني هدومي بقى البيضة وكده زي هدومك دي وادوني الي انا لابسه ده، كان شكلي كويس بس شعري طول ودقني طولت وبقيت زي ما انت شايف، كانت بتجيلي هلوسات كتير كده، بس كنت ببقى عارف انها هلوسة عشان انا مجرب كل المخدرات الي موجودة في الدنيا دي واعرف الفرق كويس بين الحقيقة والي مش حقيقة، ممكن ابقى مسطول واعمل كل حاجة بس ف الآخر ببقى عارف إني مسطول، معدتش حاجة ممكن تخليني اعلى اكتر ما انا عايز.
- يعني اصوات الديابة دي هلوسة؟
- كل حاجة هلوسة لحد ما تتاكد إنها بجد، لو عاوز تعرف تعيش
- وانا هعرف اعيش كده ازاي!
- ماهو بالظبط كده.. مش هتعرف.. بس الأوضة الي انا قعدت فيها دي كان فيها عفاريت فعلا، انا بعرف الفرق بين الحقيقة والي مش حقيقة وكل حاجة حصلتلي في الاوضة دي كانت حقيقية.. كنت بشوفهم قدامي، كانوا بيطلعوا من الدولاب، دايما بيطلعوا من الدولاب، كانوا مش بني آدمين فعلا، كانوا بيطلبوا إني أحط فلوس في الدولاب ده، اليوم الي محطش فيه فلوس يطلعوا من الدولاب هما، في يوم خليتهم يعملولي مفتاح للدولاب، الناس الي كنا عندهم من شوية، بس بردو، العفاريت كانت بتطلع عادي، كنت متخيل إني هحبس العفاريت بمفتاح، بقيت بشحت وبجيبلهم الفلوس كل يوم، الناس بتقول إن الشحاتين اغنى منهم، لو مكنوش العفاريت دول بيجولي كان زماني أغنى من الناس كلها فعلا، بس انا خلاص زهقت، هروح في حتة مش هيعرفوا يجولي فيها.
- حتة إيه؟
- هتشوف.. مالسّاش كتير.

أخذت أفكر، في صعوبة، كنت دائما ما أسخر من الغباء، والجنون، وكل هذه الأشياء، أنا الآن مجنون، لم أكن أعرف أن المجانين ليسوا مجانين فعلا! انا لست مجنونا، ولم أكن كذلك يوما، ما ذنبي أن هناك بعض الهلوسات تلاحقني؟ كل الناس تأتيهم هلوسات احيانا! كانت أمي تستيقظ ليلا صارخة وتقسم أنا رأت رجال أمن الدولة يأخذونني وتبقى بجواري إلى أن يأتي الصباح تقرأ القرآن وتبكي، أليست تلك هلوسات؟ ولكنها لم تكن مجنونة!

كيف يمكن أن يكون كل شيء هو مجرد هلوسة!، العواء، السكين الذي كاد يقتلني به الطبيب، ربما ذلك المجنون الذي يمشي بجواري، من الممكن أن يكون ذلك الطبيب أيضا كذلك، ربما لم يمت والداي، ربما لم تقم ثورة، ربما أنا الآن نائم في غرفتي أحلم، ربما مازلت في المستشفى، كيف أعرف؟! فجأة سمعت العواء الغامض مرة أخرى، أصابني الرعب قبل أن أتاملك نفسي بسرعة، كيف يمكن أن اعتاد أمرا كهذا، تذكرت قصة الفتى الذي كان يصرخ دائما أنه يغرق وعندما يهب الناس لإنقاذه يضحك قائلا أنه يمزح، وعندما كان يغرق فعلا لم يهتم أحد، ومات، لأنه كان يكذب، القصة تحوي عدالة شاعرية ما، ولكن ما ذنبي إذا لم أهتم لما أظنه غير حقيقي فتضيع حياتي ولا يبقى لي وقت لأندم؟ لن يكون ذلك عادلا بالتأكيد، كان هناك مثل يقول أن المجانين في نعيم، أعتقد أن من قال ذلك كان أحمقا كبيرا!

توقف "أبو سيد" أمام مبنى ما، حاولت قراءة ما كتب ولكن لم استطع، هل هذا حلم آخر؟ أتمنى أن يصبح كذلك ولكنه لا يبدو لي كحلم أبدا، تنبهت فجأة لأن ما كتب كان على مبنى آخر وذلك  كان إنعاكسه، المبنى الذي وقفنا أمامه كان ذو واجهة زجاجية، كيف لم ألحظ ذلك! أشار لي أن أنتظر هنا، طلب مني أن أناوله الكيس ثم دخل إلى الجراج الملحق بالمبنى.

كان المارة ينظرون إلي نظرات شك، وشفقة، إذا رأيتَ فتىً في الرابعة عشرة يرتدي ملابسا أزرارها من الخلف، حليق الرأس كمجند عسكري، هناك أثآر خياطة واضحة برأسه الحليق، تفوح منه القذارة ولكنك تعرف انه لم يكن كذلك سابقا، " باين عليه ابن ناس " كما يقولون، يقف خائفا، ينتظر شيئا لا أحد يعلمه، إذا رأيت مشهدا كهذا فإنك ستشعر بالشفقة بالتأكيد، لا يشعر أحد بذات الشفقة بالطبع على أطفال الشوارع، أو المشردين الذين ولدوا كذلك، لأنهم ولدوا كذلك، وتلك جريمة كما تعلمون!

لا أعتقد أنني أحتاج شفقة من ذلك المجتمع الذي كنت منه يوما، كنت أخاف من أطفال الشوارع، ومن المشردين، كنت أسخر من المجانين والمرضى النفسيين وكانت " مجنون " هي سبة لاذعة، إذا وصفني أحدهم بالجنون أو الغباء فسوف أنفجر غاضبا، المشكلة أنني لم أصبح من هؤلاء المشردين وأطفال الشوارع تماما، هم يعرفون أنني لست منهم وأنا اعرف، دعك من أنهم يستطيعون على الأقل التكلم بوضوح، وأنا لا أستطيع، لقد تأخر ذلك الرجل بالداخل!

سمعت العواء مرة أخرى، هذه المرة قررت ان اقاوم، لن أتأثر، هذا العواء ليس حقيقيا، أعرف ذلك، أغلقت عيني وحاولت التركيز، ولكنه كان يتزايد، كأنه يعاند أو ما شابه، أشعر ان ذلك العواء وهذه المرة مختلف، كان أقرب لسرينة ما، سرينة شرطة، أصابني الرعب وقررت أن أدخل وراء " أبو سيد "!
______________________
* بدأت اكتب الكلام بصورة طبيعية ولكنهم ما يزالون يتحدثون بصعوبة، فقط لتكون القراءة عليكم أسهل.



Share/Bookmark
rss